الكاتب: ياسين بن علي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
"ما
عظمة الأمة إلا برجالها النوابغ في العلوم والسياسة والحروب. وقد اشتهر في
تاريخ تونس كثير من رجال العلم والأدب والاجتماع والسياسة يجب على كل مريد
للبحث عن تراثنا العظيم وتالدنا القديم أن يتتبع ويستقصي أخبارهم ويستنتج
من جميع ذلك ما كان عليه سلفنا"(1).
ومن هؤلاء الرجال النوابغ
"أبو الفلاح صالح بن حسين الكواش التونسي، الفقيه الإمام شيخ الشيوخ وعمدة
أهل التحقيق والرسوخ، نادرة الدهر في الحفظ وثقوب الفكر، الأستاذ العالم
الذي لا تأخذه في الله لومة لائم... مولده سنة 1137 وتوفي في شوال سنة
1218"(2).
كعادة علماء الزيتونة، لم يكن الشيخ صالح الكواش رحمه الله
تعالى مولعا بالتأليف؛ لذلك لم يترك لنا ما يمكن اعتماده للوقوف على ما
تواتر من خبر نبوغه العلمي وعبقريته في التحقيق. ولكن تستوقفنا في ترجمته
عبارة قلّ أن نعثر عليها في تراجم العلماء، وهي عبارة: "العالم الذي لا
تأخذه في الله لومة لائم". فقد اشتهر الشيخ صالح الكواش رحمه الله تعالى
بأنّه العالم الرباني الذي لا يخاف الحكام ولا يهابهم، فكان رحمه الله
"شديدا في الحقّ لا تأخذه فيه لومة لائم، لا يهاب أميرا ولا وزيرا ولا صاحب
شوكة، يجاهر برأيه ولو أدى ذلك إلى ما أدى، ولذلك امتحن"(3).
ولهذه
الخصلة النادرة أحبّه تلاميذه وكبر في أعين أقرانه، وسارت الركبان بأخبار
شجاعته في الحق، "وما كان له من الصراحة في القول والقيام بواجب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم تهيبه لأصحاب الولايات والنفوذ"(4).
ومن
أخباره في تغيير ما يراه منكرا مخالفا للحقّ، أنه "أنكر يوما على أيمة
جامع الزيتونة التزام تأخير صلاة الظهر، فلما علم بذلك العلامة الشيخ عمر
المحجوب إمام الخمس قال: كيف ينكر الشيخ ذلك وقد نص الشاطبي على جوازه؟
فلما سمع الشيخ صالح قال: قولوا له يقلب الورقة يجد فيها أن ذلك جائز ما لم
يتخذ عادة"(5).
ومن أخباره التي تدلّ على عدم خوفه من الحكام أنه "دخل
يوما على المولى حمودة باشا وقد مات ولده فوجده شديد الجزع عديم الصبر
فقال له: إن الله ما بولدك ابتدا، ولا عليك اعتدى، فإن رضيت فيا حبذا، وإلا
فعليك بذا أو بذا. وأشار إلى جداري البيت"(6).
ومن أخباره التي تدلّ
على قيامه بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاسبة الحكام، والتي
تدلّ أيضا على سبب خلافه مع الحكام، أنه "قال له الأمير علي باي مرة: يا
أيها الشيخ، إنك جمعت من العلم والدين ما تفرق في غيرك، ولكنك لا تحسن
السياسة. فقال: أنا أعلم الناس بالسياسة، ولكنك تريد أن تخالف الشرع
وأجاريك على ذلك، فإذا لم أجارك قلت إني لا أحسن السياسة".(7)
وعبارته هذه رحمه الله تجعلنا نتوقف قليلا لبيان الفرق بين الفقه والسياسة، ولبيان العلاقة بينهما:
فالفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية. والسياسة هي رعاية شؤون الناس.
وعليه، فالفقيه هو العالم بالأحكام الشرعية العملية، والسياسي هو الراعي لشؤون الناس.
قلنا
في تعريف الفقيه بأنه العالم بالأحكام، ولم نقل في تعريف السياسي بأنه
العالم بالرعاية؛ لأنّ الرعاية عمل والفقه علم؛ فالسياسة، ممارسة ومعاناة
وكفاح وصراع ومحاسبة وكشف وحكم، أو لا تكون، وأمّا الفقه، فعلم قد يعمل به
وقد لا يعمل، وقد يوجد في الواقع وقد لا يوجد، وقد يمارس وقد لا يمارس.
والأحكام
الشرعية التي علمها الفقيه أو استنبطها هي معالجة للواقع أخذت من الدليل
الشرعي، وأما السياسة فهي رعاية شؤون الناس بهذه الأحكام الشرعية؛ فالفقيه
يوجد المعالجة نظريا، والسياسي يحوّل النظرية إلى واقع أي إلى عمل وتطبيق.
ولو تدبرنا لوجدنا أنّ المعالجات التي يقدّمها الفقيه لا قيمة عملية لها
بدون السياسي الذي يحوّلها من فكر إلى واقع، ولا أدلّ على هذا من واقع
المذاهب الإسلامية القائمة اليوم، فقد حفظت واستمرت بفضل تبني الساسة لها
وتطبيقها، كالمذهب المالكي في المغرب العربي والأندلس، وكالمذهب الحنفي في
الدولة العثمانية.
والسياسة في جوانبها التنفيذية المتعلقة بالحكم
وتدبير أمور الناس لا تنفصل عن الفقه؛ لأنّ الفقه يوجد معالجة المشكلة من
خلال بيان حكم الشرع فيها، والسياسة تطبيق للمعالجة ورعاية لشؤون الناس
بتلك المعالجة أي بالحكم الشرعي. وهذا ما عناه الشيخ صالح الكواش رحمه الله
تعالى؛ فقد بيّن للأمير علي باي أنّ السياسة تتبع الشرع ولا تستقل عنه؛
فليس للسياسي أن يسوس الرعية بما يخالف الشرع، فإن قام العالم ليحاسبه
اتهمه بالجهل بالسياسة مع أنه أعلم منه بالسياسة التي هي رعاية شؤون الناس
بأحكام الإسلام.
فرحم الله الشيخ صالح الكواش الذي استحق وصف: الفقيه السياسي والسياسي الفقيه.
قال
تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ
عَلَيْهِ فَمِنْهُم مّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا
بَدّلُوا تَبْدِيلًا}.
09 ربيع الأول 1431هـ
_______________________
(1) عن مقال: "ترجمة الشيخ صالح الكواش"، للشيخ إبراهيم النيفر، المجلة الزيتونية، المجلد1 عدد8 ص400
(2) ينظر: "شجرة النور الزكية في طبقات المالكية"، لمحمد بن محمد مخلوف، ج1 ص365
(3) عن المجلة الزيتونية، المجلد1 عدد8 ص402
(4) عن المجلة الزيتونية، المجلد1 عدد8 ص400
(5 + 6 + 7) عن المجلة الزيتونية، المجلد1 عدد8 ص400-
الرئيسية
