"هل يمكن أن تنشأ علاقة صداقة بين الرجل والمرأة، كالتي تنشأ بين المرأة
والمرأة وبين الرجل والرجل؟"
سؤال لطالما كان مثار جدل بيننا في الجامعة منذ ما يقارب الثلاثين عاما،
واستدعاه إلى ذاكرتي من جديد مقال للإعلامي اللبناني زاهي وهبي بعنوان:
"مفرد مثنى" نشر في مجلة "زهرة الخليج"، وفيه يستنكر الكاتب نظرة الشك
والريبة التي تنظر بها بعض المجتمعات، التي وصفها بأنها تعيش الكثير من
العقد والتشوهات، إلى صداقة الرجل والمرأة. ويرى أن المشكلة ليست في صداقة
الطرفين، وإنما في العقول المشوهة الملأى عقدا؛ لأن هذه العقول، من وجهة
نظره، تجرد المرأة والرجل من كل صفاتهما الإنسانية لتحصرهما في خانة
الأنوثة والذكورة.
ولكن الأمر الطريف أن الكاتب، وفي محاولته لإثبات وجهة نظره، كان دون أن
يدرك يثبت رأي المجتمعات التي يذمها في هذه العلاقة. فقد استند على بعض
الاكتشافات الطبية الحديثة التي أثبتت، وفقا للكاتب، أن الاختلاط بين
الجنسين له انعكاسات إيجابية "جدا" على الصحة النفسية والجسدية لطرفيه.
لا أحد ينكر الأثر الإيجابي للتواصل بين المرأة والرجل، فآدم كان في الجنة،
ولكنه استوحش فخلق الله سبحانه وتعالى حواء لتكون سكنا له، وهذا يعني أن
التآلف والتجاذب، النفسي والعقلي قبل الجسدي، بين المرأة والرجل موجود منذ
بدء الخلق وإنعكاسات هذا التآلف لا بد أن تكون إيجابية. هذا التجاذب
والتآلف فطري، سره في اختلاف الجنس بين الذكر والأنثى، لا في التوافق في
الأفكار والاهتمامات بين إنسانين. فالمرأة والرجل يجدان في اجتماعهما أنسا
تلقائيا لروحيهما، وسكنا لنفسيهما. ولكن الله سبحانه وتعالى جعل هذا التآلف
والتجاذب بينهما مثلثا أضلاعه التآلف النفسي والعقلي، بالإضافة إلى التآلف
الجسدي، حتى تتحقق عمارة الأرض، وتناسل البشر.
ولو أن العلاقة بين الرجل والمرأة لا تختلف في طبيعتها عن العلاقة بين
الرجال بالرجال، أو بين النساء والنساء، لما خلق الله سبحانه وتعالى جنسين،
ولاكتفي بجنس واحد، إذ ما الجدوى من خلق ذكر وأنثى لا تتمايز المشاعر
بينهما عن المشاعر بين أفراد الجنس الواحد؟
ولكن الله عز وجل وضع لهذا التجاذب ضوابط، واحتواه ضمن إطار وهو الزواج؛
لأنه يعلم سبحانه أن الاستسلام لهذا التجاذب دون ضوابطه، وخارج إطاره، لا
ينتج إلا الخراب.
وأنا هنا لا أتحدث عن الجانب الجسدي للعلاقة بين الرجل والمرأة، ولكنني
أتحدث عن الأثر النفسي والاجتماعي لخروج البشر عن الضوابط والإطار الذي
يحكم علاقات الجنسين، خصوصا أن الاختلاط اليوم أصبح واقعا لا يمكن تجنبه
بحكم ظروف الحياة العصرية، مما يستلزم التمسك بهذه الضوابط أكثر.
ولو عدت إلى السؤال الذي بدأت به المقال: "هل يمكن أن تنشأ علاقة صداقة
حقيقية، بين الرجل والمرأة، كتلك التي تنشأ بين المرأة والمرأة وبين الرجل
والرجل؟".
لنتخيل السيناريو التالي، لنفترض أن زميلين في العمل وجدا أن ما يجمعهما
يبشر بإمكانية نشوء علاقة صداقة بينهما، بالإضافة، بالطبع، إلى ود يربط
بينهما هما بالذات، بدليل أنه لم يختر غيرها مشروع صديقة، ولم تختر غيره
مشروع صديق. وبحكم التعامل المنفتح الذي تتطلبه الصداقة بينهما يتحدثان في
همومهما، حيث يبدأ الأمر في هموم العمل، ثم ومع مرور الوقت يتزايد الارتياح
والثقة بينهما، فيتطور الأمر إلى الحديث عن هموم العائلة، إلى أن يصل إلى
أدق الهموم الشخصية، أليس هذا جوهر الصداقة، الارتياح والثقة والمساندة؟
ولكن إذا كانت هذه هي علاقة الصديق بالصديقة، فما الذي يمكن أن يحققه
الزواج لكلا الطرفين أكثر من ذلك، عدا العلاقة الجسدية؟ بمعنى أنه إذا كانت
المرأة تشارك "صديقها" في تفاصيل حياتها بسبب الارتياح والثقة اللذين تشعر
بهما تجاهه، فما الذي تبحث عنه في زوج المستقبل؟ وينطبق نفس المعنى على
الرجل.
سأضيف فرضا آخر، سأفترض أن المرأة أو الرجل المرتبطين بعلاقة صداقة، أحدهما
متزوج. الذي سيحدث أحد أمرين، إما أن يبتعد الطرف المتزوج؛ لأنه سيعيش
الصداقة وأكثر مع شريك الزواج. أما إذا استمرت علاقة الصداقة بينهما، هذا
إذا استمرت علنا بعلم زوجيهما وموافقتهما، فما الذي يمنع أن تتطور علاقة
الصداقة إلى مشاعر مختلفة، خصوصا في لحظات قد يكون هناك توتر أو خلاف أو
فتور أو ملل بين الزوجين. بل إن الإنسان أحيانا تكون مشاعره في حالة فوضى
وجموح ما يجعله يرى "صديقته" بعيني مشاعره.
كل ذلك وأنا لا أتكلم عن سوء نوايا عند الرجل والمرأة عندما يتقدمان إلى
مشروع صداقة بينهما، أنا أتحدث عن إنسانين قررا أن ينكرا الانجذاب الفطري
بينهما، ظنا منهما أنهما أكثر معرفة بأنفسهما من خالقهما.
إن العلاقة الصحية التي يمكن أن تحتضن هذا التآلف والانجذاب بين الرجل
والمرأة هو الزواج. فالزواج يطلق العنان لهذا الانجذاب ليحوله الزوجان من
خلال العشرة إلى مودة ورحمة، وهو أسمى ما يمكن أن تصل إليه علاقة بين امرأة
ورجل؛ لأنها تستوعب كل المعاني التي يحلم كل منا بتحقيقها مع شريكه.
فالمودة كلمة جامعة تعني الرقة والألفة وإظهار الميل والرغبة والتعبير عن
الاشتياق. أما الرحمة فهي كذلك كلمة جامعة تعني التسامح والتفاهم والعطف
والشفقة والصبر والابتعاد عن القسوة والغضب والعنف.
لذلك فقد حث الإسلام على الزواج المبكر، ليس فقط تحصينًا للشباب من الوقوع
في علاقات محرمة، وإنما لكي يعيشوا كل تلك المعاني، التي تعيش في خيالهم
وتستدعيها مشاعرهم، في إطار أقره الله عز وجل.
وفي الختام أقول لمن يرى أن المنطق الذي يرفض صداقة الرجل والمرأة منطقا
مشوها، أنه إذا استطاع هذان الصديقان أن يعيشا وحدهما في بيت واحد، ويناما
في سرير واحد، دون حرج، ودون أن يمر أحدهما بلحظة ضعف، كما يحدث في صداقة
الرجل للرجل، وصداقة المرأة للمرأة، عندها فقط تصبح صداقة الرجل والمرأة
أمرا طبيعيا وممكنا ومقبولا.
شاهناز أبو حجلة/صحيفة السبيل
__________________
قال من قد سلف : ( لا ترد على أحد جواباً حتى تفهم كلامه ، فإن ذلك
يصرفك عن جواب كلامه إلى غيره ، و يؤكد الجهل عليك ، و لكن افهم عنه ، فإذا
فهمته فأجبه و لا تعجل بالجواب قبل الاستفهام ، و لا تستح أن تستفهم إذا
لم تفهم فإن الجواب قبل الفهم حُمُق ) . [ جامع بيان العلم و فضله 1/148 ].