مَسْأَلةٌ فيِ المُصَافَحَةِ
أما المصافحة لغة، فتعني الأخذ باليد (1)، ووضع صفح الكف في الكف، والصفح يعني باطن الكف، ومنه قول الرسول r p لصافحتكم الملائكة بأكفُّهم i.
والمسلمون فيها على رأيين، وخاصة بعض الجماعات الإسلامية، وفي أيامنا هذه بين مجيز ومانع، ولكل دليل يستند إليه.
أما الرأي الأول: فهو الذي يقول بعدم جواز المصافحة، مستنداً إلى ما ورد في قضية البيعة من أحاديث:
الأول: قولهpr إنِّي لا أصافح النساء إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة i.
الثاني: قول عائشة: pلا والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط غير أنه بايعهن كلاماً i.
الثالث: قولهr p قد بايعتكن كلاماً i.
الرابع: قولهr p لأنْ يطعن برأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له i.
الخامس: قولهr p من مسَّ كف امرأة ليس منها بسبيل وضع على كفه جمرة يوم القيامة i.
أما الرأي الثاني: وهو الذي يجيز المصافحة للأدلة التالية:
منها ما هو في قضية البيعة، ومنها ما هو في غير البيعة.
الأول: أنه r صافح ولكن بحائل، وذلك عن عامر- هو الشعبي – قال: بايع رسول الله r النساء وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه".
الثاني: أنه r قد بايع مصافحة: وذلك من حديث أم عطية قالت:
_________________________________________________________________________________
(1) في القاموس المحيط للفيروزآبادي .
p بايعنا رسول الله فقرأ علينا ] ولا تشركن بالله شيئاً[، ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة منا يدها، قالت: فلانة أسعدتني فأريد أن أجزيها i.
الثالث: ورد في كتب التفسير كابن كثيرp أنَّ رسول الله حين بايع النساء فكانت هند زوج أبي سفيان متنكرة فعرفها رسول الله r فدعاها فأخذت بيده، فعاذرته فقال r أنت هند، قالت: عفا الله عمَّا سلف".
الرابع: وفي نفس المصدر p أنَّ هنداً جاءت إلى رسول الله لتبايعه فنظر إلى يدها، فقال r إذهبي فغيِّري يدك، فذهبت وغيرتها بحناء ثم جاءت فقال: أبايعك i.
الخامس: وفي رواية لأبي داود في سننه: قوله r p لا أبايعك حتى تغيِّري كفيك كأنهما كفا سبعi .
السادس: وأخرج الترمذي في جامعه عن النبي r p مرَّ يوماً بجماعة نسوة فأومأ بيده بالتسليم i.
السابع: وأخرج أبو داود عن أسماء بنت يزيدp مرَّ علينا رسول الله r في نسوة فسلَّم عليناi، وفي رواية p فألوى r يده بالتسليم i.
الثامن: قال ابن القيم (1) رحمه الله في هذين الحديثين: " والظاهر أنَّ القصة واحدة وأنَّه r سلَّم عليهن بيده".
التاسع: وعن أنس بن مالك قالp كانت الأمَةُ من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله r فتنطلق به حيث شاءتi وفي رواية للعسقلاني p فما ينـزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءتi.
هذه هي مجمل الأدلة التي وردت في قضية المصافحة، والملاحظ أنها مسألة خلافية وهي بحاجة إلى التوفيق والترجيح؛ لئلا يصبح تعارضاً بين الأدلة، وإليكم تفصيلاً لهذه الأدلة مع ترجيح أحدها بغلبة الظن، حتى يتسنى لنا تبنِّي أحدها حتى يكون حكم الله في حقنا.
أما قوله r p إني لا أصافح النساء i. إنَّ هذا النص لا يوجد فيه ما يدل على تحريم المصافحة بحال، وكل ما فيه أنَّ رسول الله امتنع عن المصافحة، وامتناعه ________________________________________________________________________________
(1) في كتابه زاد المعاد.
هذا لا يعني أنها حرام، فقد امتنع عن أفعال كثيرة وهي في الأصل مباحة، إلا أنه امتنع عن فعلها، فقد امتنع عن سماع الزمارة، وامتنع عن أن يبيت في بيته درهم أو دينار، وامتنع عن أكل الضب، وعن أكل الجراد، والكليتين، وعن أكل البصل والثوم، وامتنع عن الشرب في إناء فيه لبن وعسل، وفي رواية امتنع عن أكل الأرنب، وكان لا يأكل من الشاة سبعاً: الذكر، والأنثيين، والحياء، وهو الفرج، والدم والمثانة، والمرارة، والغدد، وكان يحب من الشاة الذراع والكتف.
فهذا وأمثاله من المباحات، لا يصير إلى الحرمة لمجرد أنَّ النبي r إمتنع عن فعله.
وأيضاً، لا يوجد في قوله r p إني لا أصافح النساء i أي قرينة تدل على التحريم، وكل ما هنالك أنه امتنع عن المصافحة، كما كان يمتنع عن أي فعل مباح، وأيضاً فإنَّ قوله r p إني لا أصافح النساء i يدل دلالة واضحة من دلالة النص وألفاظه، أن الرسول هو المعني والمختص بالخطاب، حيث يقول: "إني" وحرف "لا" يعني النفي، ولا يعني النهي عن المصافحة في هذا النص، فالرسول r أخبر عن نفسه في هذه الحادثة أنه لا يصافح النساء أي أنه يمتنع عن ذلك ، فيفيد الامتناع ولا يفيد التحريم.
أما من يقول بأننا مأمورون باتِّباع النبي r والتأسي به، فلا يجوز مصافحة النساء لذلك، إتباعاً وتأسياً برسول الله r، أقول: إنَّ التأسي والاتباع لرسول الله r واجب بإجماع، ولكن لا يعني أنَّ المصافحة حرام لذلك، لأنَّ التأسي لا يكون لأفعاله، وهو لم يفعل شيئاً في هذه الحادثة سوى الامتناع عن الفعل، وحتى لو جاز ترك المصافحة تأسياً لرسول الله r، إلاَّ أنَّ التأسي معناه أن يكون الفعل مثل فعله ومن أجله وعلى وجهه، وأفعال الرسول r فيها الواجب والمندوب والمباح، فبأيها نأخذ في هذه المسألة؟ حتى يكون فعلنا مثل فعله ومن أجله وعلى وجهه، فالنصُّ لا يفيد النهي حتى نقول بالتحريم، ولا يفيد الأمر حتى نقول للوجوب، فلم يبقى إلاَّ أنه امتنع عن مباح، وسيأتي شرح التأسِّي فيما بعد.
أما حديث عائشة رضي الله عنها فهو موقوف عليها وهي صادقة فيما تقول، وكلامها هذا على حدِّ علمها برسول الله r ، ونحن نعلم أنَّ رسول الله r تزوج أكثر من أربعة نسوة، وكانت خديجة رضي الله عنها قبل عائشة، فكيف تكون قد عرفت السابق واللاحق عن رسول الله r دون إخبارها، ولو أخبرها r لقالت أخبرني، أو قال لي رسول الله r، ولذلك فقولها موقوف عليها.
ومعنى الموقوف: هو المروي عن الصحابة، قولاً وفعلاً، ومطلقه يختص بالصحابي، وقد يكون إسناده متصلاً وغير متصل، وهو الذي يسمِّيه كثير من الفقهاء والمحدثين بالأثر، والموقوف لا تقوم به حجة لأنَّ الله . يقول] وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [، فمفهومه ما آتاكم من غير الرسول لا تأخذوه.
وعليه فلا حجة في أحد دون رسول الله r، ولا يحل أن يضيف ذلك إلى رسول الله r لأنه احتمال وليس بظن، والاحتمال لا يعتبر.
وعليه فلا يعتبر قول عائشة رضي الله عنها دليلاً على أنَّ رسول الله rلم يصافح النساء، والذي يؤيد ذلك أيضاً أنَّ رسول الله بايع مصافحة، وذلك من حديث أم عطية المذكور في أول الباب قولها p فقبضت امرأة منا يدهاi، وهذا يعني أن غيرها لم تقبض يدها، من باب مفهوم المخالفة، ومعنى قبضت عكس بسطت، وذلك في الحديث الشريف عن عائشة رضي الله عنها p كنت أنام بين يدي رسول الله ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي وإذا قام بسطتهما ثانية i.
فحديث أم عطية يدل على أنَّ المرأة كانت باسطة يدها للبيعة فلما نهاهنَّ عن النياحة قالت إنَّ فلانة أسعدتني فأريد أن أجزيها، وهي تعلم وتدرك معنى البيعة، فلم ترد أن تتقيَّد إلاَّ بعد التحلل من التزام سابق أو وفاء عهد سابق، لأنَّ عقد البيعة يحرِّم عليها ذلك، فقبضت يدها قبل البيعة بعد أن بسطتها للبيعة وذهبت لتتحلل من الإلتزام وعادت وبايعت رسول الله r.
وأيضاً أنَّ هند زوج أبي سفيان أخذت بيده r في البيعة وعاذرته فلم ينهها عن ذلك ولم يمتنع عن ذلك أيضاً مما يدل على أنه r صافح.
وكذلك قوله r لهنـد: حين نظـر إلى يدها p إذهبي فغيِّري يدك i وقـوله
p r لا أبايعك حتى تغيري يدكi فغيرتها بحناء فجاءت وبايعته، فما علاقة البيعة بتغيير اليد بالحناء إذا لم تكن مصافحة؟
وما رواه الترمذي أيضاً أنَّ رسول الله r مرَّ على نسوة فسلَّم علينا بيده، وفي رواية فسلَّم عليهنَّ بيده، يفيد أنَّ التسليم باليد، والتسليم باليد يعني المصافحة، ولا يعني بالإيماء أو الإشارة لأنَّ فيها تشبها باليهود والنصارى، وقد نهى r عن ذلك بقوله p لا تشبهوا باليهود والنصارى فإنَّ تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالكفi.
إذاً فما دام كذلك فلا يخرج الأمر عن كونه r سلَّم بيده مصافحة.
وكذلك حديث الأمة التي أخذت بيده ولم ينـزع يده من يدها.
وأيضاً كونه صافح ولكن بحائل كما سلف ذكره بوضع ثوب بينه وبين المصافح، كل هذا وأمثاله يدل على أنَّ رسول الله r صافح بيده.
وأما قوله r p إني لا أصافح النساء i، فلا يتعارض مع ما ذكرنا من مصافحته r للنساء، ذلك أنَّ رسول الله rلم ينه عن المصافحة في هذا الحديث، وإنما أخبر عن امتناعه عن ذلك في وقت من الأوقات، ولم يمتنع في غيره، كما امتنع عن قبول الهدية تارة، وقبلها تارة اُخرى، وكما امتنع عن أكل الأرنب تارة، وأكله تارة اُخرى، فيكون رفضه للشيء تارة دون بيان تحريمه ثم فعله تارة أخرى يدل على أنَّ الأمر مباح ليس غير؛ لأنَّ الذي يحتمل فيه التعارض تحريم يقابله إباحة، والملاحظ في قوله r p إني لا أصافح النساء iأنه لم يحرِّم كما سبق بيانه مما يدل على نفي التعارض.
وأيضاً لو سلَّمنا أنَّ فيه تعارض، فيرجَّح المباح فيه على النهي.
يقول الآمدي رحمه الله (1) إذا كان أحد الأمرين ناهياً والآخر مبيحاً فالمبيح يكون مقدَّماً.
وإن قيـل إنَّ قول الرسـول r يدل على نفي المصافحة وفعله r يـدل على
_____________________________________________________________________
(1) في كتابه الإحكام في أصول الأحكام وغيره من كتب الاُصول- في التعادل والتراجيح.
الإثبات فيكون متعارضاً لذلك فيرجح النفي على الإثبات: لا يقال ذلك؛ لأننا لو سلَّمنا بأنه يوجد تعارضاً، فيكون تعارضاً بين قول وفعل، والقاعدة أنه لا يقع التعارض بين قول الرسول r وفعله، إلاَّ في حالة النسخ فقط (1)، أي أن يكون فيه سابق ولاحق، ومتقدم ومتأخر، وفي هذه الحادثة يكون فعل الرسول r متأخراً عن فعله فيكون ناسخاً له، فالقول كان قبل فتح مكة، وفي رواية قبل الهجرة، في بيعة العقبة الثانية (2)، والفعل كان بعد فتح مكة، أو بعد الهجرة، لفعله مع النسوة، كحديث أم عطية، وفعله مع هند زوج أبي سفيان، وغير ذلك، أما إن لم يعرف التاريخ، ولم يعرف المتقدم من المتأخر، فإن كان خاصاً برسول الله r فلا تعارضاً في حق اُمته، خاصة وأنها ليست مكلفة باتباعه فيما يخصه، والملاحظ أنَّ لفظ الحديث يدل على الخصوص (3).
وعليه فلا يوجد تعارض بين هذه النصوص، ولا بينها وبين أفعاله r .
ومن الدلالة أيضاً على أنَّ المصافحة من حيث هي مصافحة للنساء مباحة
كونه سمح لغيره بالمصافحة أيضاً، وذلك لما روي عن أم عطية رضي الله عنها قالت p لما قدم رسول الله المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب t، فقام على الباب فسلم فرددن عليه السَّلام، فقال أنا رسول رسول الله إليكن ألا تشركن بالله شيئاً، فقلن : نعم. فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: اللهم اشهد i(4).
وروي عنه لما فرغ r من بيعة الرجال جلس على الصفا ومعه عمر t
أسفل منه، فجعل يشترط على النساء البيعة وعمر t يصافحهن (5).
وهذا أيضاً فيه أمارة على أنَّ رسول الله r إنما امتنع عن فعل مباح، وهي سماحه لغيره بالمصافحة، دون الإنكار عليه أو نهيه عنها، هذا بالنسبة للأحاديث والأثر، أما بالنسبة للقرآن الكريم، فإن مفهوم قوله I ] أو لامستم النساء[ بلفظ العمـوم،
_______________________________________________________________________
(1) مجمع الزوائد والسيرة الحلبية- عند الحديث عن بيعة العقبة الثانية.
(2) إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الاُصول، والمستصفى للغزالي، والشخصية الإسلامية للشيخ تقي الدين النبهاني.
(3) نفس المصدر السابق . (4) القرطبي في تفسيره.
(5) قاله الكلبي في مفاتيح الغيب للرازي / والقرطبي في تفسيره.
لجميع النساء من حيث أنَّ الملامسة تنقض الوضوء يدل اقتصار الحكم على نقض الوضوء من لمس النساء، على أن مجرد لمسهن بغير شهوة ليس حراماً، فمصافحتهن كذلك ليست حراماً، لأنه لم يترتب ذم ولا عقوبة على فاعله سوى أنه مقتصر على نقض الوضوء أو عدمه.
وأيضاً فإنَّ الآية تدل على جواز اللمس بدلالة الإشارة،؛ لأنه وإن سيق لبيان نقض الوضوء، ولكنه يفهم جواز لمس الرجل للمرأة وهو عام في كل لمس ولكل امرأة.
وعليه فلا يعارض جواز اللمس المفهوم من هذه الآية أيضاً بحديثp لا أصافح النساءi، لخصوص الحديث في البيعة وعموم اللمس في كل شيء، فلا شبهة تعارض بين الخاص والعام كذلك.
وكذلك فإنَّ الفقهاء اقتصروا في بحث الآية على أنها تنقض الوضوء أو لا تنقض، أما حل اللمس وحرمته فيها فلم يتعرضوا له.
أما بالنسبة للحديثين المذكورين في صدر الموضوع على تحريم المصافحة، قول الرسول r p لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل لهi.
أما الحديث الأول: ففيه ثلاثة وجوه تدل على عدم دلالته على تحريم المصافحة.
الوجه الأول: إنَّ الحديث لم يذكر فيه يد امرأة، وإنما قال امرأة لا تحل له، فيبطل الاحتجاج به على تحريم المصافحة من هذا الوجه.
الوجه الثاني: وذلك من معنى المس المذكور في الحديثين، ولمعرفة معنى المس المذكور لا بدمن استعراض لبعض معاني المس الموجود في الشَّرع، فإنَّ لِلَمَسَ معانٍ متعددة، وذلك حسب وقوعه في الجملة.
فمثلاً قول الله I ] إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [، وقوله I ] وقالوا لن تمسَّنا النار [، وقوله I ]وما مسَّنا من لُغوب [، وقوله I ] ما مسَّني السُّوء [، فالمس في هذه الآية معناه: أصاب، أو أصابه، أو أصابهم.
وقد يأتي بمعنى آخر وهو قوله I ] لا يمسُّه إلاَّ المطهرون [، أي لا يلمسه، وقد
يأتي بمعنى آخر أيضاً وهو قوله I ] قال فاذهب فإنَّ لك في الحياة أن تقول لا مِساس[ أي لا اُمس ، ولا اُمس مدى الحياة بعدم المخالطة والقربى والكلام وغير ذلك. وهذا ولو نظرنا إلى المسِّ الذي ورد في حق النساء، أي مسّ الرجال للنساء، وهو موضع البحث لوجدنا معناه أنه الوطء والجماع، وهو غير المعاني التي ذكرناها:
قال الله I ] لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن[، وقوله I ] وإن طلقتم النساء من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم [، وقوله I ] إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها[، وقوله I ] قالت أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر[، فالمسّ في هذه الآيات يدل على الجماع أو الوطء عند جمهور العلماء من السلف، ولكن إذا كان المس الذي هو الجماع أو الوطء مع من لا تحل له فهو الزنا قطعاً.
إلاَّ أنه يجب أن يعلم أن الزنا يكون مجازاً، ويكون حقيقة.
أما كونه حقيقة فهو الجماع مع من لا تحل له، وكالميل في المكحلة وكالرشاء في البئر للآيات التي ذكرناها في مس النساء.
أما الزنا على المجاز: فهو لمس النساء من الأجنبيات، ممن لا تحل، سواءً بالتقبيل أو غيره، بقصد الشهوة والتلذذ، لقولهr pواليد تزني وزناها اللمس i، وقوله r لماعز:p لعلك لمستi، وقوله للرجل الذي لقي امرأة فأتى منها ما يأتي الرجل من زوجته دون الجماع، فقال له r: pتوضأ ثم صلِّ، الحسنات يذهبن السيئاتi، فاعتبرها سيئة، وأيضاً قوله للذي شكى زوجته للرسول r أنها لا تمنع يد لامس، فقال له رسول الله r:p طلقهاi، فقال: إني اُحبها، قال r p فاستمتع بها إذاًi، فهذه القرائن صرفت أن يكون المس أو اللمس باليد أو التقبيل زنا حقيقياً، بل جعلته على المجاز، لاستحالة حدوثه حقيقة، وإنه وإن كان مجازاً، إلاَّ أنه حرام، بسبب كونه من مقدمات الزنا ] الحسنات يذهبن السيئات[ فجعله من السيئات، وهذه دلالة على حرمتها.
وعليه فالحديث الأول يحتمل المعنيين للزنا الحقيقي والمجازي.
أما احتماله للمعنى الحقيقي وهو الجماع: ذلك أنَّ النص ليس فيه يد امرأة، وإنما قال" امرأة"، فيحمل على معناه الحقيقي وهو الجماع، فإذا كان بمن لا تحل له فهو الزنا وهذا حرام بلا خلاف، وعليه عقوبة وهي الحد. وأما احتماله للمعنى الثاني وهو المعنى المجازي للمس، أي أن يمس امرأة لا تحل له مس زنا، أي بقصد الشهوة والتلذذ وما إلى ذلك، ولو لجميع البدن ما لم يجامعها، وهذا حرام أيضاً لأنه اعتبر سيئة، وذلك في ذكر الحديث الأول، إلاَّ أنه ليس زنا حقيقة.
الوجه الثالث: إن عموم قولهp لا تحل لهi ، يدخل فيه المحارم كذلك، لأنها ممن لا تحل له، كالأم والأخت وبنت الأخ وبنت الأخت والعمة والخالة ، فدخول المحارم في النص، يجعل الأمر ليس لمجرد اللمس أو المصافحة لأنه لا يختلف اثنان ذوا عدل على أن لمس المحارم مجرداً مباح ولا شيء فيه، فحتى يحرم لمس المحارم أو مسَّها باليد كذلك لا بد وأن يكون المس مس زنا أي بقصد الشهوة والتلذذ، وعلى وجه يريدها وتريده، وليس مجردا، فهذا يوجب حرمة مس أو لمس المحارم كذلك على هذا الوجه؛ لأنها دخلت في عموم قوله لا تحل له، وإلا فهناك تعارض بين جواز لمس المحارم كالتي أشرنا عليها مجردا وبين تحريم لمسها مجردا، إلا أن يكون المعنى كما ذكرنا.
الوجه الرابع: إنَّ قوله r p لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديدi قرينة على الجزم وكناية على العقوبة، وهي الطعن في الرأس، والمخيط هو ما يخاط به كالإبرة والمسلة والمخرز، والطعن في الرأس معناه القتل ومعروف أنَّ الشَّرع قد بين متى يقتل المسلم، كقتل النفس، والثيب الزاني، والتراك لدينه المفارق للجماعة وكاللوطي، وحتى إن الزاني غير المحصن لا يقتل، وإنما يجلد، فترتيب مثل هذه العقوبة في النص يجعل المس في الحديث ليس مجرد اللمس، وإنما لقصد الشهوة والتلذذ وبقصد الزنى.
الوجه الخامس: وزيادة على ذلك فإنَّ الحديث ضعيف ولا يحتج به.
أما الحديث الثاني: وهو قوله r p من مسَّ كفَّ امرأة ليس منها بسبيل وُضِعَ على كفه جمرة يوم القيامةi، فهذا الحديث أيضاً لا يدل على مجرد اللمس أو المصافحة لثلاثة وجوه أو قرائن:
الوجه الأول: أنَّ المس في هذا الحديث أيضاً يأخذ المعنى المجازي للزنا، وهو اللمس أو المس بقصد الشهوة والتلذذ، ولا يأخذ المعنى الحقيقي للمس لاستحالة حدوثه في كف امرأة كالميل في المكحلة، ومعناه أن من مس كف امرأة ليس منها بسبيل مس زنا أي بقصد الشهوة والتلذذ وضع على كفه جمرة، وهذا قرينة على التحريم بقصد الشهوة والتلذذ والزنى، لقوله r p واليد تزني وزناها اللمسi وهذا هو المعنى المجازي لزنا اليد الذي أخذه هذا الحديث.
الوجه الثاني: إنَّ قوله pr ليس منها بسبيلi يحتمل معنيين، فيخرجه كذلك عن تحريم مجرد اللمس أو المصافحة: المعنى الأول: أن يكون النص خاصا بالمحارم، لمطلق قوله ليس منها بسبيل، أي لا سبيل إليها لا بعقد ولا بغيره، وهذا لا ينطبق إلا على المحارم المؤبدة.
والمعنى الثاني: إن عموم قوله r p ليس منها بسبيلi يدخل فيه المحارم أيضاً، ولدخول المحارم في النص من هذين المعنيين يحول معنى الحديث من تحريم مجرد اللمس أو المصافحة إلى تحريمهما بقصد الشهوة والتلذذ، أي بقصد الزنا، لأن لمس المحارم ومصافحتها مجرَّداً جائز بلا خلاف، إلاَّ أن يكون المعنى كما ذكرنا، حتى يحرم على المحارم وغيره.
الوجه الثالث: قال الكمال بن الهمام في شرح هذا الحديث:" والظاهر أن مراده بالمرأة المذكورة في النص المذكور هي المرأة الصالحة لأن تدعو النفس إلى مسها، لا التي تحققت فيها دعوتها إليه بالفعل، وإلاَّ لزم أن لا يثبت حرمة مس الرجل الشاب المرأة الأجنبية الشابة إذا أمن على نفسه وعليها".
وخلاصة قولنا في هذين الحديثين أن يكون المس فيهما مس زنا، أي بقصد الشهوة والتلذذ، وهذا الذي دلت عليه القرائن، قول r pلأنْ يطعن i، وقوله r p وُضِعَ على كفه جمرةi، وأيضاً قوله r للرجل الذي لقي امرأة فأتى منها ما يأتي الرجل من زوجته إلا الجماعpالحسنات يذهبن السئياتi، فاعتبرها سيئة، وقوله للرجل الذي شكى زوجته أنها لا تمنع يد لامس r pطلقهاi، فيفهم من هذا كله أن لمس أو مس الرجل للمرأة أجنبية كانت أو من المحارم، ولمس أو مس المرأة للرجل أجنبيا كان أو من المحارم بشهوة وبقصد التلذذ والزنى حرام، وهذا الذي ذمه الشَّرع، واعتبره من مقدمات الزنى، حيث قال r p واليد تزني وزناها اللمسi، وقوله r لماعز p لعلك لمستi، وأكثر ما يقال في هذه المسألة أنَّ المصافحة لمجرد المصافحة كالتحية مثلاً مباح، ولا شيء فيها، إن لم تكن بقصد الشهوة والتلذذ وبقصد الزنى، كما جاء في الحديث p واليد تزني وزناها اللمس i،وبمعنى آخر: أنَّ الإنسان مخير بين ذلك يصافح أو لا يصافح، وأكثر ما فيها أنها تنقض الوضوء أو لا تنقض الوضوء، ولا يترتب عليها ذم إن كانت خالية من الشهوة أو غير ذلك، ثم إذا ثبت أن أحدا من الفقهاء قال بتحريم مجرد لمس المرأة سواء كان بشهوة أو بغيرها تكون المسألة خلافية على ذلك لما ذكرنا من آراء العلماء على جواز لمس المرأة ولكن بدون شهوة.
وعليه جاز للمرء أن يتبنَّى رأياً من هذه الآراء إن لم يكن مجتهداً أو ليس لديه أهلية الإجتهاد حتى يكون هذا الرأي حكم الله في حقه، ولا داعي لتفسيق غيره ممن أخذوا بغير رأيه ، فهم قد أخذوا برأي غيره من العلماء، وكلاهما جائز وخصوصاً إذا كانت من فروع الدِّين.